بقلم د. باسل نعمان – باحث اقتصادي
في وقت تتجه فيه الاقتصادات الناشئة إلى تعظيم الاستفادة من مواردها الطبيعية عبر تطوير سلاسل القيمة، ما زالت مصر تُصدّر جانبًا كبيرًا من ثرواتها المعدنية في صورتها الخام، تاركة مجال تكرير المعادن – وهو الحلقة الأهم في تحويل الخامات إلى منتجات عالية النقاء – بلا حضور يُذكر.
ورغم ما تملكه البلاد من كنوز مثل الذهب، المنغنيز، الرمال السوداء، والفوسفات، فإن صناعة التكرير المتقدمة تكاد تكون غائبة، ما يحرم الاقتصاد من قيمة مضافة كان يمكن أن تخلق فرصًا للعمل وتدعم الصناعات الاستراتيجية.
تتعدد أسباب هذا الغياب، بدءًا من ضعف البنية التحتية الصناعية المتخصصة، مرورًا بارتفاع تكلفة التكنولوجيا وتطبيق المعايير البيئية، وصولًا إلى غياب الشراكات العالمية، فضلًا عن انشغال الدولة على مدى عقود بقطاعات أخرى كالبترول والغاز، بينما ظل التعدين في الهامش. كما أسهم الاعتماد التاريخي على تصدير الخامات الأولية في تقليص الحافز لإنشاء معامل تكرير محلية قادرة على المنافسة.
النتائج الاقتصادية لهذا الوضع واضحة: خسارة مستمرة للقيمة المضافة، وتراجع تنافسية الصادرات مقارنة بدول مثل جنوب أفريقيا وكندا التي تصدّر منتجات معدنية مكررة عالية الجودة. كما يُفوت غياب هذه الصناعة فرص توظيف واسعة في مجالات الهندسة والكيمياء وتكنولوجيا التعدين، ويجبر قطاعات محلية – كالإلكترونيات والبطاريات – على استيراد المعادن المكررة، ما يضغط على الميزان التجاري ويُعيق التنمية الصناعية.
تجاوز هذه الفجوة يتطلب رؤية شاملة تبدأ بتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في معامل التكرير، وتحديث التشريعات التعدينية لجعل السوق أكثر جذبًا للشركات العالمية، إضافة إلى إنشاء مناطق صناعية متخصصة قرب المناجم، مع تبني تقنيات صديقة للبيئة لضمان التوازن بين النمو والحفاظ على الموارد. كما أن إعداد كوادر وطنية مدرّبة في هندسة التعدين والكيمياء الصناعية يُعد ركيزة أساسية لنجاح أي خطط مستقبلية.
إن غياب صناعة تكرير المعادن في مصر ليس قدرًا محتومًا، بل فرصة كامنة تحتاج إلى قرار استراتيجي واستثمارات مدروسة. الاستثمار في هذا القطاع يمكن أن يحوّل البلاد إلى مركز إقليمي لتكرير المعادن يخدم أفريقيا والشرق الأوسط، ويضيف رافدًا مهمًا لاقتصاد يسعى إلى تنويع مصادر دخله وتعزيز مساره نحو التنمية المستدامة.